1
كاد قلبها يتوقف من سرعة خفقاته ؛ فتحت الباب , أضاءت الأنوار و كان كل شئ بمكانه , لم يزد شئ سوي حبَات التراب الكثيفة التي كست وجه المنزل و اصفرار أبيض الحوائط .
رن الهاتف .. ما زال يعمل بعد كل هذه السنوات!
تُري من المتصل؟ ..
"آلو؟"
يرد الهاتف : "أيوة يا ماما , حمد لله علي السلامة .. مش قلت لك تكلمينا أول ما توصلي؟ كنت متأكدة إني هلاقيكي في بيت جده و تيتا."
"أهلاً يا (قمر)"
تصمت قليلاً ثم : "انتي جبتي النمرة دي منين؟!"
"من أجندة بابا القديمة . "
"الولاد عاملين إيه؟"
"بيعيطوا علشان تيتا سابتهم ."
تمر لحظات من الصمت..
"مالك يا ماما؟"
"مفيش يا حبيبتي , بوسيلي الولاد كتير."
"انتي هتقعدي عندك ولا هتروحي بيتنا؟"
"مش عارفة لِسَه يا (قمر)."
"طيب يا ماما أنا قلت بس أطَمِن عليكي . عايزة حاجة؟"
لمحت الأم صورة زفاف والديها علي الحائط .
"ماما؟"
"نعم؟ .. إيه؟ لأ مش عايزة حاجة ."
"خدي بالك من نفسك .. مع السلامة يا ماما."
"مع السلامة."
وقفت أمام الصورة تتأملها من بين حبات التراب .
تنهدت :" وحشتوني!"
أغرورقت عيناها بالدموع .. "ابن أخوك مات و سابني لوحدي يا بابا!"
جلست فوق كرسيها المفضل و أخذت تتأمل البيت .
2
فجأة تذكرت صندوقها الذي كانت تخفيه سراً في خزانة سريرها . هرولت نحو غرفتها .. رفعت الأغطية و المرتبة ثم أبعدت الألواح الخشبية . لم تكترث للتراب الذي كسا ملابسها .
ها هو صندوقها الفضي الذي أهداها إياه في عيد ميلادها الخامس عشر . أخذت تتأمله للحظات قبل أن تمد يدها له و كأنهما يتبادلان النظرات الدافئة . تناولت الصندوق و تركت المرتبة تسقط من فوق يدها .
فتحت الصندوق .. كانت تضع هناك كل هداياه و رسائله التي كان يرسلها لها سراً مع أخته .
"حبيبتي سوزان..
وحشتيني جداً جداً جداً . مش قادر استني لما الإجازة تخلص علشان أشوفك و أتكلم معاكي من غير شبابيك و لا حيطان بيننا .."
كانت هذه مقدمة إحدي جواباته .
رغم كل شئ لا تزال تحس بالرعشة نفسها عندما تقرأ كلمة حبيبتي بخط (عادل) و كأنها تسمعه يقولها و تراها في عينيه.
كان (عادل) – شقيق زميلتها و أعز صديقاتها (منال) - يقطن في البناية المقابلة لها , و كان يدرس في المعهد المجاور لمدرستهما . كان (عادل) يصطحب (منال) و (سوزان) كل صباح إلي المدرسة . كانت تلك أحب لحظاتها التي تبقيها متشبثة بالحياة رغم القهر الذي يمارسه والدها الصارم عليها . كان ممنوع عليها أن تخرج إلا للمدرسة و لا حتي لزيارة (منال) لأن لها أخ ولد!
و من باب استمرار مسلسل القهر فرض عليها والدها الزواج من ابن عمها (رشدي) الذي كان ’متكلم عليها ‘ ليحجزها للزواج بمجرد أن تنتهي من دراستها الثانوية . قاوَمَتْ كثيراً و بَكَتْ لأمها التي كانت تدري قصة حبها ل(عادل) , و لكنها و أمها لم يستطعا الصمود طويلاً أمام ضغط أبيها و تهديده بالتعرض بالأذي ل(عادل) إن لم توافق علي الزواج من (رشدي) ابن عمها المهندس الميسور الحال .
3
تزوجت (رشدي) . كان رجلاً طيباً يراعي الله فيها . و بعد عام هاجرت معه إلي أمريكا و هناك رزقت بطفليها (قمر) و (كريم) . عاشت هناك , و ترعرع طفليها و تلقوا تعليمهم و جاهدت معهم حتي لا يصيروا ’مُأمرَكين‘ .
تزوجا هناك و أنجبت (قمر) حفيدين كانا هما التعويض الحقيقي ل(سوزان) عن شعور الغربة الذي ما كان يفارقها.
طيلة السنين لم تعد إلي مصر سوي أربع مرات , كانت الزيارة الرابعة منذ عشرين عام . لم تقوي أن تزور المكان مرة أخري بعد أن فارق والداها الحياة ؛ والدها أولاً - الذي لم يره أحفاده إلا مرتين . ثم لحقت به والدتها بعد ثلاث سنوات .
لم يكن لها إخوة , و لم يكن هناك سبيلاً لزيارة صديقتها الوحيدة (منال) لأنها ببساطة أخت (عادل) الذي وصلتها أخبارٌ عن زواجه هو الآخر من إحدي أقاربه و أنه أنجب ثلاث صبيان.
4
توفي (رشدي) منذ شهرين تقريباً . وجدت نفسها وحيدة في بيتها بأمريكا ف(قمر) و (كريم) مهما كانا بارَيْن فإن كلٍ منهما له حياته تشغله . سَوَت بعض الأمور و قررت العودة إلي ديارها تعيش وسط الذكريات.
ثلاثون عاماً مضت و لم يتغير شئ سوي وجود أبناء و أحفاد , و بعض الخطوط الدقيقة التي رسمها الزمن حول أركان وجهها.
2 comments:
جميلة..أكتر حتة حبيتها بتاعت قرايتها للجوبات القديمة وكلامها لابوخا في الصورة كأنها بتأنبه وبتقوله..خلاص أرتحت.. اهو مات..خلاص ..قضيت رسالتي اللي فرضتها عليا اني اعيش ملزماه طول حياتي..واخيرا اصبح بأمكانها الانفراد بحبيبها القديم حتي من خلال سطوره القديمة
يمكن تكون اول زياره لي ولكني استمتعت به جدا
قصه واقعيه يحياها كثيرا من الناس
واعتقد انها ضحيه تنازلها عن الحب مسبقا فتجني تلك الثمار الان
لابد من كل شخص مقتنع بما يفعله ان يحارب ويقاتل من اجله حتي يفوز به ويكون راضيا تماما عن نفسه
Post a Comment